إن لتلاوة القرآن الكريم أسلوبًا مميزًا، ونموذجًا خاصًّا، يجمع بين استحسان الشرع وملائمة الطبع، بحيث يحقق الهدف المنشود من تلاوته، اسـتجابة لأمر الله تعالى في قوله: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن} [المزمل: 20].
وهذا الأسلوب الخاص، الذي انفرد به القرآن الكريم- تلاوة وأداء- يعتمد أساسًا على جودة إخراج الحروف من مواضعها، وحسن الوقوف ومناسبته، وتدبر للمعاني، مع لطف في الأداء الصوتي، وجمالٍ وحسن أداء أثناء النطق به.
وإذا ذهبنا نتتبّع الصور والحالات المستحسنة شرعًا لتلاوة كتاب الله تعالى، وجدناها مجموعة في قوله سبحانه: {ورتّل القرآن ترتيلًا} [المزمل: 4].
والترتيل: التحسين والتنسيق والتأني في القراءة، وذلك ما نُدِب إليه المسلم، لأنه الطريقة المثلى لتحقيق الهدف من قراءة القرآن الكريم.
وقد دلّت الأحاديث والآثار المروية على مواظبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسلوب الترتيل، أخرج البخاري والنسائي عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (كان يمدّ مدًّا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، يمدّ ببسم الله، ويمدّ بالرحمن، ويمدّ بالرحيم).
هذا، ومن مكمّلات ترتيل القرآن، تحلية الصوت، وقت التلاوة، والأداء الأغنّ الجميل، روى النسائي عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «زينوا القرآن بأصواتكم». وروى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أذِن الله لشيء، ما أذن لنبي أن يتغنى بالقرآن». أي: يحسن ويجمل صوته حال قراءته. وروى الشيخان عن البراء بن عازب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا منه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه في أصحابه الصوت النفّاذ، الحسن النديّ الموهوب، وهو الذي قدّم بلالًا على غيره- في الأذان- لأنه أندى صوتًا، كما في حديث الترمذي وأبي داود وغيرهما.
وكان لأبي موسى الأشعري صوتٌ حسن أخّاذ في أداء نفّاذ، وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود». حديث متفق عليه. وإنما كان ذلك الإعجاب؛ لانسجام المضمون مع روعة الأداء، في تكامل فطري مرغوب، يجمع بين الهيئة والمعنى.
ولقد كان العرف السائد بين السلف الصالح: أن القراءة القليلة المرتّلة، مع الفهم والتدبر، خير من القراءة الكثيرة، مع العجلة والسطحية وعدم الانتباه، لأن الهدف من قراءة القرآن فهمه وتدبره، وهذا لا يكون إلا بالتأني والترتيل. قال الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} [ص: 21].
هذا، ومما ينبغي على المسلم مراعاته: تعاهد القرآن الكريم، وذلك بالمداومة على قراءته وختمه في كل شهر مرة واحدة، لئلا يتطاول عليه الزمن، فيؤدي ذلك إلى الهجر والنسيان. أخرج الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعاهدوا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده، لهو أشد تفلتًا من الإبل في عقلها» أي: رباطاتها. وأخرج الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمر: «اقرأ القرآن في شهر».
إن قراءة القرآن تجتلب الجو الملائكي، وتنزل السكينة، وتتوارد لها أسباب الرحمة، وتتفتح لها أبواب السماء، ويكتب أصحابها مع السفرة، الكرام البررة. روى الشيخان من حديث أسيد بن حضير قال: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوط عنده، إذ جالت- تحركت- الفرس، فسكتَ، فسكتتْ. فقرأ، فجالت الفرس، فسكت، فسكتت الفرس. قال: وكان ابنه يحيى قريبًا منها، فأشفق أن تصيبه، فجرَّه بعيدًا عنها، ثم انصرف فرفع رأسه إلى السـماء، فإذا مثل الظلّة، فيها أمثال المصابيح، فخرج- من الرهبة- حتى لا يراها، فلما أصبح حدّث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال له: «أوَتدري ما ذاك؟» فقال: لا. قال: «تلك الملائكة دنت لصوت الذكر، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، ولا تتوارى منهم».
وهكذا رغّب الإسلام في ترتيل القرآن، ودعا إلى تحسين الصوت أثناء قراءته، لاستجلاب التدبر والفهم، وحينذاك يتحقق الهدف الأسمى في الوقوف على مراد الله، ومعرفة الحلال والحرام، وإتباع الخير والمعروف، واجتناب الشر والمنكر.
الكاتب: أ. د. حسن عبد الغني أبو غدة.
المصدر: موقع رسالة الإسلام.